الثعبان المقدّس

              (نقلها الكاتب عن مجلة الثقافة لتلاميذه في الصفّ الخامس)             

   زرت ذات يوم أحد مشايخ الزنوج بإقليم بحر الغزال، فأنزلني في الواق – وهو عبارة عن فِنَاء مستطيل مسقوف تبيت فيه الأبقار ليلًا لكي تكون في مأمن من الأمطار والوحوش المفترسة – ثمّ أمر أتباعي أن يضعوا سريري بقرب الكجور – والكجور في اعتقاد الوثنيين بهذا الإقليم هو الروح المقدّسة المتقمّصة في جسم ثعبان، وهو صاحب السلطة الروحيّة الذي يجلب الخير ويمنع الشّر- والشّيخ لا يبغي من إيجادي في الواق حيث تبيت المواشي التي يبجّلونها، وبقرب الثّعبان، إلّا المبالغة في إكرامي والوصول بي إلى أرفع درجات الاحترام

   دخلت هذا الفِناء وابتدأ مضيفي يبالغ في تحيّتي. وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث، إذ بأولاده يقدّمون اللّبن والزبدة للثعبان ويلاعبونه كأنّه قطّ أليف، والثّعبان يلاعبهم كذلك من غير أن يمسّهم بضرر، مع أنّه من نوع الناشر شديد السّم، فبهتّ عندما رأيت هذا المنظر وسألت الشّيخ:

- أيفهم الثّعبان لغتك؟

قال: - ويعلم الغيب.

   وفي أثناء ذلك كان الثّعبان يرفع رأسه ويمدّ لسانه، ويلحس ما علق في فمه من آثار الزّبدة.

فقلت للشيخ مرّة أخرى:

- هل يمكنك أن تكلّمه لكي يخرج الآن ثمّ يأتينا في الصّباح؟

فقال: - طبعًا.

ووقف يتحدّث بلغته ثم أشار إلى السّماء؛ فما كان من الثّعبان إلّا أن انسحب، وخرج من الواق.

فتعجّبت من ذلك وقلت له: - بماذا حدّثته؟

فقال: - التمست منه الخروج الآن، ثمّ العودة عندما تكون الشّمس في المكان الذي أشرت إليه في السّماء، ولَشَدَّ ما دُهشت عندما رأيت الثّعبان قد عاد في الموعد المحدّد؛ وقد دفعني حبّ الاستطلاع إلى الوقوف على مدى عقيدتهم في هذا الثّعبان، فاستدرجت الشّيخ إلى الحديث عنه، حتّى عرفت منه أنّهم يرجون منه الخير، ويستعطفونه لردّ المكروه. ثمّ استمرّ في الحديث معي حتّى قال:

- وإذا صاهَرَتْ أسرةٌ أسرةً أخرى، ورحل العريس لزيارة أسرة العروسة، لحق به الثّعبان إلى دار أبويها مهما بعدت، منفردًا بدون مرشد، ويتخطّى أثناء رحيله الأنهار والخِيران1؛ فإذا ما رأوه تهلّلوا بقدومه، واحتفلوا به وأكرموه، فيمكث معهم ما يشاء من الوقت؛ وعندما يريد العودة إلى مقرّه، يحضرون ثورًا ويسيّرونه أمامهم وهم يهلّلون ويرقصون؛ وعند وصولهم إلى الواق يذبحون الثّور، فتضرب النفارة2، ويُقيمون الأفراح وتقدّم الهريسة للضيوف، ويشرب الثّعبان من دم الثّور المذبوح، ويستمرّ الحال على هذا المنوال من ثلاثة إلى سبعة أيّام.

 

            من كتاب "الصيد في غابات السودان"

                    للأستاذ جاد الله طانيوس

                         الثقافة عدد 633

 

- الخيران: جمع خور وهو الغَور أي المكان المنخفض. 1

- النفارة: آلة موسيقيّة من تراث موريتانيا.2